يظن البعض أن التعصب قائم على العشيرة والدين والمذهب فقط، والحق خلاف ذلك، فقد ذم العلماء التعصب للباطل بكل أشكاله وصوره، ومدحوا التعصب للحق والتمسك به، ومن أوائل ما قرأنا ودرسنا عن التعصب تعصب الجهلاء إلى مذهبهم وعقيدتهم وتمسكهم بها أشد التمسك، حتى وإن جاء الدليل واضحًا ونصًا صريحًا جليًا مع المخالف، لأنهم تربوا على مقولة باطلة: من لا شيخ له فشيخه الشيطان، ومقولة: خليها برقبة عالم واطلع منها سالم. هاتان المقولتان اللتان زرعهما في عقولهم ونفوسهم أهل البدع والأهواء ليجعلوهم عبيدًا لهم فيسهل عليهم حملهم وتوجيههم إلى ما يريدون الوصول إليه من حطام الدنيا الفانية، ونشر عقائدهم الباطلة، وأفكارهم المنحرفة.
وآخرون يتسترون بحديث لا أصل له: «إختلاف أمتي رحمة» فيذكروه للناس على أنه حديث للرسول صلى الله عليه وسلم ليمرروا من خلاله آراءهم وأفكارهم المخالفة للقرآن والسنة، بكل وضوح وصراحة، وآخرون يتسترون بحديث لا يصح أيضًا، وهو: «أصحابي كالنجوم بأيهم إقتديتم إهتديتم» ليمرروا من خلاله أخطاءهم، وزلاتهم، وأخطاء العلماء وزلاتهم، لتكون لهم مبررًا لفعل ما يريدون، وهذا لا يجوز شرعًا ولا يصح عقلًا، وخذ مثالًا على ذلك الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان ينفي صلاة الضحى وهذا الحديث في البخاري: ... فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي المَسْجِدِ صَلاَةَ الضُّحَى، قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلاَتِهِمْ، فَقَالَ: بِدْعَةٌ.....
وكما هو معلوم للجميع أن صلاة الضحى ثابتة ولا يختلف عليها إثنان، فلو إستسلمنا لقول ابن عمر رضي الله عنه وتركنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل هذا من العدل والإنصاف في شيء؟ وهل يجوز رد قول رسول الله بقول شخص ولو كان أعلم الناس ومن الصحابة الكرام، فهذا لا يقوله عاقل فضلا عن عالم، لأن القرآن والسنة تحضنا وتأمرنا على طاعة الله ورسوله، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]. وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وهذه الآية الكريمة واضحة الدلالة على وجوب الأخذ بكل ما جاء به الرسول الكريم، وعدم ترك أي شيء منه، ولهذا ذم الله تعالى المشركين على تركهم ما جاءهم من الحق المبين وتمسكهم بما كان عليه آبائهم وأجدادهم من العقائد المنحرفة والعادات المنكرة، حتى سقطوا في الشرك والضلال المبين، قال تعالى: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53]، وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].
فهؤلاء تعصبوا لآبائهم وأجدادهم وتركوا الحق الذي جاءهم فما أشبه حالهم بحال الكثيرين اليوم ممن يتعصبون لشيوخهم ويوالون ويعادون عليهم، وكأن الدين معهم والعصمة لهم وهم من يبلغون مراد الله إلى الخلق أجمعين، فسبحان الله ما أشبه أهل الباطل قديمًا وحديثًا، فمنهجهم واحد وفكرهم جامد، ولا يعرفون ويعترفون إلا بمن هوته قلوبهم، وكانوا عنه راضين، بل وصل الأمر ببعض الجهلاء أن يبدع أحدهم أخاه ويرميه بالبدع والضلال، بل حتى وبالكفر فانظر أخي الكريم كيف يعمي التعصب العيون عن رؤية الحق ويمنع القلوب من إدراك الشرع الحنيف وإتباعه، ولا أجد مثالًا أستدل به على ما أقول أشد بهاءً، وأنصع بياضًا، يوضح ما أريد من ما نقل عن أتباع المذهبين الحنفي والشافعي من تحريم زواج أحدهما من الآخر، وتنازل بعض الأحناف فجوزوا زواج الحنفي من الشافعية إنزالا لها بمنزلة أهل الكتاب، الله أكبر، وذلك بسبب خلافهم في مسألة الإستثناء في الإيمان فالشافعية يجوزونه والأحناف يحرمونه، فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو مؤمن عند الشافعية، كافر عند الأحناف، لأنهم يرون الإستثناء تشكيك في وجود الإيمان، والشك كفر عند الحنفية والمذاهب الأخرى، والحق في المسألة التفصيل: فإن كان الإستثناء صادرًا عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا مُحرّم، بل كفر، لأن الإيمان جزم، والشك يُنافيه، وإن كان صادرًا عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولًا، وعملًا، وإعتقادًا، فهذا واجب خوفًا من هذا المحذور، وإن كان المقصود من الإستثناء التبرك بذكر المشيئة، أو بيان التعليل، وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز.
وهذه القصة ذكرتها على الرغم من قدمها، لأنها عادت من جديد في هذه الأيام فبسبب الأحداث الأخيرة التي وقعت بين السلفيين هداهم الله وأصلح حالهم ذهب شخص إلى بيت رجل ليخطب ابنته فسأله والد الفتاة أنت من جماعة من؟ من فلان أو علان؟ فتفاجأ الخاطب وتدارك الأمر وسرعان ما هرب بحيلة وأخرى، وقال: الحمد لله الذي عرفني بكم قبل أن تقع الفتنة، فالوالد أراد أن يتحقق من الخاطب هل هو من أهل البدع والضلال وربما الكفر عنده، أو من أهل التوحيد والسنة حسب رأيه وفهمه.
فإنظر أخي الكريم كيف مزقنا التعصب وأهلكنا، ودمر الأمة وجعلها فرقا وأحزابا متصارعة يأكل بعضها البعض، ولا يفوتني أن أذكر قول العلامة الألباني: إننا كنا نعاني من التقليد فإذا بنا نعاني الآن من الإنفلات، وأقول رحمك الله يا شيخ فبعدك هجم علينا التقليد والإنفلات معا وحار الحليم يعالج من، فالتقليد كنا نعانيه من غيرنا ووقعنا فيه اليوم نحن، والإنفلات صار لنا أشهر من نار على علم حتى أصبحا آفتا العصر، أصلح الله حال الأمة وردها إلى دينها القويم وصراطها المستقيم.
الكاتب: عقيل حامد.
المصدر: موقع طريق الإسلام.